فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأودية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض، وقد كانت حالةَ معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة، كما علمه الله ودلّت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها، ثم تغيّرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حلّ سنين ببلاد عاد، أو أرضية، فصار معظمها قاحلًا فهلكت أممها وتفرّقوا أيادي سَبا.
وقد تقدّم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو {أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار} في سورة البقرة (25).
والفاء في قوله: {فأهلكناهم} للتعقيب عُطف على {مكّنّاهم} وما بعده.
ولمّا تعلّق بقوله: {فأهلكناهم} قوله: {بذنوبهم} دلّ على أنّ تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا.
فالتقدير: فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم، ففيه إيجاز حذف على حدّ قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} الآية، أي فضرب فانفجرت إلخ.
ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلًا ل {أهلكنا} الأول على نحو قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} في سورة الأعراف (4).
والإهلاك: الإفناء، وهو عقاب للأمّة دالّ على غضب الله عليها، لأنّ فناء الأمم لا يكون إلاّ بما تجرّه إلى نفسها من سوء فعلها، بخلاف فناء الأفراد فإنْه نهاية محتّمة ولو استقام المرء طول حياته، لأنّ تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقابًا إلاّ فيما يحفّ به من أحوال الخزي للهالك.
والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك ممّا دلّ عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا: بربهم يعدلون ثم أنتم تمترون وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحقّ لمّا جاءهم، وما قاله بعد ذلك: {ولو نزّلنا عليك كتابًا في قرطاس} الآية.
وقوله: {وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين}: الإنشاء الإيجاد المبتكَر، قال تعالى: {إنّا أنشأناهن إنشاء}.
والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا، كما أنشأ قريشًا في ديار جرهم، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثمودًا بعد عاد في منازل أخرى.
والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأنّ الله مهلكهم ومنشيء من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم.
ففيه نذارة بفتح مكّة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين.
وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق، لأنّ ذلك أمر مستمرّ في البشر لا ينتهي، وليس فيه عظة ولا تهديد للجبايرة المشركين.
وأفرد {قرنًا} مع أنّ الفعل الناصب له مقيّد بأنّه من بعد جمع القرون، على تقدير مضاف، أي أنشأنا من بعد كلّ قرن من المهلكين قرنًا آخرين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}.
هذا ما شاهدته قريش في رحلات الشتاء والصيف. رأوا آثار عاد قوم هود وبقايا ثمود قوم صالح. وكانت إمكانات عاد وثمود أكبر من إمكانات قريش. إن قريشًا لا سيادة لها إلا بسبب وجود الكعبة، ولو كان الحق ترك أبرهة يهدم الكعبة لما مكن لهم في الأرض. ها هي ذي حضارات قد سبقت وأبادها الحق سبحانه وتعالى ويوضح القرآن ذلك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6- 13].
إنها حضارات كبيرة لهم صيت وخبر في آذان الدنيا مثل حضارة الفراعنة. وكل ذلك الصولجان لا يحميه أحد من أمر الله. وزالت الحضارات وأصبحت أثرًا بعد عين، وصدق عليها قول الحق: {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
والحق يجازي كل كافر الجزاء الوافي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر قومه بما حدث لغيرهم من أقوام آخرين {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} والقرن عادة هو الجيل الذي يحكمه زمن محدود أو حال محدود، فإن نظرنا إلى الزمن فالقرن مائة سنة كأقصى ما يمكن، والجيل الذي يعيش هذا القدر يرى حفيده وقد صار رجلًا. ونعلم أن نوحًا عليه السلام عاش تسعمائة وخمسين سنة. يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14].
وحياة نوح على طولها تسمى قرنًا. إذن فالقرن هو جيل يجمعه ضابط إما زمني وإما معنوي، والقرن الزمني مدته مائة سنة، أما القرن المعنوي فقد يكون عمر رسالة أو مُلْك.
ويخبر الحق أهل الكفر بأنه قد قدر على غيرهم وأبادهم بعد أن مكن لهم في الأرض وذلك بألوان مختلفة من أنواع التمكين: {وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}، وهذا الخبر يأتي من السماء بما حدث لقوم سابقين مثل قوم سبأ، فقد قال عنهم الحق في موضع آخر من القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].
ومسكن سبأ باليمن آية دالة على قدرة الله؛ حديقتان وارفتان عن يمين وشمال؛ ليأكل أهل سبأ من رزق الله ويشكروا نعمة الله. وكان لهم سد مأرب، ووهبهم الله القدرة لبنائه، فقطعوا من الجبال التي ليس عمل فيها ليحجزوا ماء المطر الساقط من السماء، كل شيء إذن فعلوه وإنما فعلوه لأن الله قد أراده، وهم أعرضوا عن أمرين: عن الرزق الوفير الذي منحهم الله إياه وأرادوا أن يعتمدوا على أنفسهم كما فعل قارون حيث قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي}.
ظنوا أنهم قادرون على رزق أنفسهم وكذلك لم يشكروا الله، ولذلك أرسل الله عليهم سيل العرم، أي أنه عقاب من جنس العمل، وهكذا تكون عاقبة الإعراض والكفر بنعم الله. فقد سلط الله عليهم حيوانا من أضعف الحيوانات وأحقرها وهو الفأر فنقب السد فأغرق أموالهم ودفن بيوتهم.
ويخبر الحق رسوله بكل هذه الأخبار ليلفت بها وينبه إليها قومًا رأوا آثار حضارة عاد وثمود، والرؤية سيدة الأدلة، وطالبهم الرسول بها حتى يعرفوا عاقبة الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ولم يطلب الحق من رسوله إلا البلاغ فقط، أما إيمان القوم فليس مكلفًا به صلى الله عليه وسلم، إن هؤلاء قد خافوا من سيطرة لا إله إلا الله فهم الذين صنعوا من أنفسهم آلهة وتسلط بعضهم على بعض. فتخيل القوي أنه إله على الضعيف. وتخيل الغني أنه إله على الفقير، وتخيل العالم أنه إله على الجاهل، أما لا إله إلا الله فهي تساوي بين الناس جميعًا، وهم يرفضون ذلك لأنهم يريدون السيادة.. ومثال ذلك قولهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فهم لم يجرؤوا على الطعن في القرآن، إنما طلبوا أن تكون السيادة لغني من أغنياء القريتين مكة أو الطائف وتناقض هذا القول مع عملهم وسلوكهم مع الرسول، فقد حفظوا كل نفيس حرصوا عليه عند محمد صلى الله عليه وسلم. ولو كان الواحد منهم يرى شيئًا أو مغمزًا في أمانة رسول الله لما فعلوا ذلك. ولكن الواحد منهم بالرغم من التكذيب بمحمد لم يكن يأتمن إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان حينما تقع مصلحته أمام تكذيبه فهو يغلب مصلحته على تكذيبه.
ويبين الحق سبحانه أن إعراض هؤلاء، وتكذيب هؤلاء واستهزاء هؤلاء، لا يمت إلى حقيقة أمرك يا رسول الله، ولا إلى حقيقة القرآن في شيء، وإنما هو العناد، مثلهم مثل آل فرعون الذين جحدوا آيات الله على الرغم من أن أعماقهم رأت هذه الآيات بيقين لا تكذيب فيه. {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 14].
فقد أنكر قوم فرعون رسالة موسى عليه السلام مع أنهم تأكدوا من صدقها، ولكنهم أنكروها بالاستكبار والعلو والظلم، فكانت عاقبتهم من أسوأ العواقب، وهذا هو حال المنكرين دائمًا لأيات الله. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

السؤال الأول: ليس في هذا الكلام إلا أنهم هلكوا إلا أن هذا الهلاك غير مختص بهم بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضًا قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزجر عن الكفر مع أنه مشترك فيه بين الكافر وبين غيره.
والجواب: ليس المقصود منه الزجر بمجرد الموت والهلاك، بل المقصود أنهم باعوا الدين بالدنيا ففاتهم وبقوا في العذاب الشديد بسبب الحرمان عن الدين.
وهذا المعنى غير مشترك فيه بين الكافر والمؤمن.
السؤال الثاني: كيف قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ} مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضًا ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة.
والجواب: أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
والسؤال الثالث: ما الفائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم.
والجواب: أن الفائدة هي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلكهم ويخلي بلادهم منهم، فإنه قادر على أن ينشيء مكانهم قومًا آخرين يعمر بهم بلادهم كقوله: {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 15] والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} وفى سورة الشعراء: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}، للسائل أن يسأل هنا عن شيئين: أحدهما ثبوت الواو العاطفة في آية الشعراء وسقوطها من آية الأنعام؟ والثانى وجه اختصاص كل واحدة منهما بموضعهما وإبداء المناسبة؟
والجواب عن ذلك: إن آية الأنعام لم يتقدم قبلها التنبيه على ما به التذكار والاعتبار مفصحا به تنبيها مع تخويف وتهديد متأكد مكرر يستدعى التقريع والتوبيخ بمقتضى الهمزة الداخلة على واو العطف كما في سورة الشعراء وان كان المتقدم في كل واحدة من السورتين متضمنا ما يحصل به الاعتبار مع ما في المتقدم في الأنعام من التفصيل والإطناب إلا أن المتقدم في سورة الشعراء أوضح وأنص من حيث التخويف لعدم الاعتبار بالدلائل المنصوبة مشاهدة للمعتبرين فلما لم يكن وضوح التنبيه فيما قبل آية الأنعام كوضوحه في السورة الأخرى بما انجر معه من التخويف المتكرر وإنما المتقدم قبل قوله: {ألم يروا} إيماء إلى الاعتبار بأحوال القرون السابقة وليس كالواقع قبل آية الشعراء لم يرد ما بعده مما هو تنبيه مخوف معطوفا عليه إذ لا يناسبه كفروا المتقدم من شديد التخويف المنجر فيما بعده أما آية الشعراء فإن قوله تعالى قبلها: {تلك آيات الكتاب المبين} تحريك وتنبيه، ثم إن ما يتلوه من قوله تعالى: {لعلك بلخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} وإن كان تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم في طيه أعظم وعيد وتهديد لمن اعتبر ثم بعد ذلك قوله تعالى: {إن نشأ عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} إلى ما بعده فهذا أوضح تنبيه بما صحبه من مخوف التهديد فعطف عليه قوله: {ألم يروا إلى الأرض كم آتينا فيها}... الآية وناسبه أوضح مناسبة.
فصل:
ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة من في قوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض} وفى سورة السجدة: {ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} وفى ص: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا...}.
وردت هذه الآى الثلاث بزيادة من فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآى لم ترد فيها من كقوله تعالى في سورة مريم: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} وفى آخرها: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد} وفى طه: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم}، وفى يس: {ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} وفى سورة ق: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا} فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها من فيسأل عن وجه زيادتها في الآى الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن من إنما تزاد في هذه الآى حيث يراد تأكيده ضمن الآى من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآى ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآى الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف ثم نقول: أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور}، وقد كانوا يعترفون بأنه تعالى الخالق {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ثم تتابع ما بعد على هذا إلى قوله: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} على بيان الأمر ووضوحه ثم قال: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} فحصل التسجيل ببقائهم على اظفعراض وإنفاذ الوعيد عليهم ولا أشد من هذا ونحوع بل مثله في الشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد قوله تعالى في سورة السجدة {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} فاكتنف الآية ما تضمنته الآيتان من الوعيد والتهديد فناسب ذلك ما اقتضته زيادة من من مناسبة التأكيد فقيل و{من قبلهم} وأما آية ص فحسبك ما تضمنته من أولها إلى قوله: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} ثم قال تعالى مخبرا عن حالهم في تكذيبهم واستبعادهم {عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} ولعظيم تمردهم ووعيدهم المحكى عنهم في هذه الآى ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر في قوله تعالى: {اصبر على ما يقولون} ثم أعقب تعالى بقصة داود عليه السلام أعلاما لنبيه بأن ذلك مراده منهم بما قدر لهم في الأزل فقد سخر الجبال والطير لداود وألان له الحديد فلو شاء لهدى هؤلاء فلعظيم ما ورد في هذه الآى من مرتكبات كفار قريش وغيرهم لذلك ما ورد التأكيد بزيادة من في قوله بعد ذكر شقاقهم واغترارهم {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} فهذا وجه زيادة من في هذه الآى أما الآى الأخرى خمستها فلم يرد فيها ولا فيما اتصل بها ما ورد في هذه من التغليظ في الوعيد ومتوالى التهديد وإن كانت قل ما ترد إلا لذلك ولكن اشتداد التهديد إنما هو بحسب ما يقارن أو يكنف أو يتقدم أو ينجر معها من التغليظ في الوعيد فبحسب ذلك يقوى الرجاء أو يضعف وإذا تأملت قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} لم تجدها في نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن في التهديد واحدة من تلك الآى الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى: {إنما نملى لهم ليزداوا إثما} ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله: {فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا} فليست في التغليظ كتلك الآى إذا حقق ما قبلها وكذلك الآية الثانية وهى قوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد...} الآية في نفسها وفيما انتظمت به وأما آية طه فأوضح في إيحاء الرجاء في نفسها وما نتظمت به ألا ترى ما قوله تعالى: {أفلم يهد لهم} وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله: {لأولى النهى} من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآى الثلاث وأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله في المنتظم بآية يس والمعقبة به من قوله: {أفلا يشكرون} وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب ويجب والله أعلم. اهـ.